نقد كتاب أسطورة العبوسة
يبدو أن الكتاب كان محاضرة او كلام ألقى فى مجلس حديث من قبل
أحمد الماحوزى وهو أحد علماء الشيعة فقام بإعداد وتدوين المحاضرة بعض السامعين وهما محمد الرضوي ومصطفى المزيدي
وقد استهل الماحوزى الحديث برواية فى كتب الشيعة وهى:قال رسول الله (ص) :« إن الله يبغض المعبس في إخوانه »
مستدرك الوسائل ج 8/ 321 فردوس الخطاب ج 1/153 كشف الخفاء ج 1/289"
ومعنى الرواية صحيح ثم ذكر الرجل الجزء الأول من سورة عبس فقال:
( عبس وتولى * أن جآءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جآءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى )
ثم تناول الرجل ما ذكر فى الكتب من أسباب نزول الآيات فقال:
"سبب نزول السورة:
ذهب المفسرون من العامة إلى أن هذه الآيات الكريمة نزلت في الرسول الأكرم (ص) لما عبس في وجه عبدالله بن أم مكتوم حينما جاءه وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل فرعون قريش والوليد بن المغيرة العتل الزنيم وغيرهم من صناديد قريش ليقنعهم بالإسلام ويستميل قلوبهم ، فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله ، أقرأني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله (ص) قطعه لكلامه وقال في نفسه : الآن يقولون هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد ، فعبس في وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم
فنزلت الآية عتابا على الرسول (ص) بما فعله في حق المسكين ابن أم مكتوم ، فكان (ص) حينما يرى ابن أم مكتوم يقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي فيكرمه حتى يستحي ابن مكتوم من كثرة إكرامه له "
"وفي رواية عن الخاصة أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وابن أم مكتوم من كثرة إكرامه له قال علي بن ابراهيم : كان ابن أم مكتوم مؤذنا لرسول الله (ص) وكان أعمى ، فجاء إلى رسول الله (ص) وعنده أصحابه ، وعثمان عنده ، فقدمه رسول الله (ص) على عثمان ، فعبس عثمان في وجهه وتولى عنه ، فأنزل الله ( عبس وتولى ) يعني عثمان ( أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى ) أي يكون طاهرا زكيا ( أو يذكر ) قال : يذكره رسول الله (ص) ( فتنفعه الذكرى ) ثم خاطب عثمان فقال ( أما من استغنى * فأنت له تصدى ) قال : أنت إذا جاءك غني تتصدى له وترفعه ( وما عليك ألا يزكى ) أي لا تبالي زكيا كان أو غير زكي ،إذا كان غنيا ( وأما من جاءك يسعى ) يعني ابن أم مكتوم ( وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) أي تلهو ولا تلتفت "
العامة يقصد بهم أهل السنة والخاصة يقصد بهم الشيعة ولا يمكن أن يكون هناك سببان للنزول فهو سبب واحد وبالقطع ليس بالضرورة ان يكون واحد من الروايتين لأن معظم الروايات عند الفريقين أكثرها مفترى
ورواية الخاصة يردها ان مصاحف الشيعة تقول ان الآيات مكية بينما الرواية تقول أنها وقعت المدينة لآن الآذان كان فى المدينة
والقرآن لم يحدد الأعمى كونه ابن أم مكتوم لأنه كان هناك مجموعة من العميان آمنوا بالنبى (ص) فى مكة
وقام الماحوزى بالبحث من طريقين القرآن والرواية وبدأ بالقرآن فقال :
"المقام الأول : البحث القرآني:
السورة المباركة جاءت مستنكرة الموقف والحالة التي حدثت مع الأعمى الذي عبس في وجهه وأعرض عنه ، فوصفت ذلك المعاتب الذي تولى عن الأعمى وتشاغل عنه بأمور : العبس ، والتولي ، والتصدي للأغنياء ، والتلهي عن الفقراء والمؤمنين ، فقوله تعالى ( عبس وتولى ) إشارة إلى الأولين ، وقوله ( فأنت له تصدى فأنت عنه تلهى ) إشارة إلى الثالث والرابع ، فليس المتصدي لفئة معينة والمتلهي عن فئة أخرى شخص آخر غير العابس ، فظاهر سياق الآيات صريح في اتحاد العابس مع المتصدي والمتلهي بل منشأ العبس والتولي ليس إلا بسبب الاتصاف بالتصدي والتلهي ، وكأن هاتين الصفتين عادة متبعة وملكة راسخة لدى العابس ، لا أنها موقف وانتهى ، والشاهد على ذلك الاتيان بصيغة الفعل المضارع « تصدى » أي تتصدى « تلهى » أي تتلهى ، الصريح على الاستمرارية والتكرار ، ففرق بين قولنا « عثمان عبس في وجوه المؤمنين » وقولنا « عثمان يعبس في وجوه المؤمنين » ، إذ الجملة الأولى لا تفيد إلا تحقق ذلك في الماضي ، ولا تدل على أن ذلك عادة متبعة أم لا ، بخلاف الجملة الثانية فإنها تدل بصراحة على استمرارية العبس في الوجوه وأن ذلك عادة متبعة وملكة راسخة في عثمان ، فتدبر
فغرض السورة كما أفاد العلامة الطباطبائي عتاب على من يقدم الأغنياء والمترفين على الضعفاء والمساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة"
الماحوزى هنا يقرر عكس ما يستشهد به فيقول أن لفظ عبس" دل بل منشأ العبس والتولي ليس إلا بسبب الاتصاف بالتصدي والتلهي ، وكأن هاتين الصفتين عادة متبعة وملكة راسخة لدى العابس"
العبوس عنده عادة وملكة متكررة دائمة هنا وهو ما يخالف قوله" ففرق بين قولنا « عثمان عبس في وجوه المؤمنين » وقولنا « عثمان يعبس في وجوه المؤمنين » ، إذ الجملة الأولى لا تفيد إلا تحقق ذلك في الماضي ، ولا تدل على أن ذلك عادة متبعة أم لا"
إذا عبس لا تفيد تكرار واستمرارية العبس ويبدو الغرض من التفسير هو الذم فى عثمان
والسورة لم تحدد العابس كونه عثمان فحتى لو اعتبرناه هو الغنى فلن يكون هو العابس ولكنه سيكون من تلهى لأن الأغنياء هم الذين يلهون فثبت بهذا ان الرواية عند الشيعة مخالفة للقرآن
ثم تعرض الرجل لتفسير الآية فقال:
"تفسير الآية:
وكون الأعمى لا يشعر بالعبوس لا يعني عدم قبحه ، فعدم معرفة الانسان من اغتابه لا تجعل الغيبة من المباحات ، مع أنا لا نسلم أن ابن أم مكتوم لم يشعر بعملية العبس من قبل العابس ، إذ لم يقتصر هذا العابس بالعبس بل أعرض وتولى ، فإن كان المعبوس في وجهه أعمى لم ير العبس فإن تولى العابس عنه مما لا يخفى عليه كما أن رؤية الحاضرين عملية العبس كافية في الحكم بقبحها شعر بذلك المعبوس في وجهه أم لا
فالعتاب في الآية أولا وبالذات على تلك النفسية التي تتنفر من الفقراء والمؤمنين وتتحبب إلى الأغنياء مهما كانوا عبس المضايقة لا الاحتقار والقول : بأن هذا العبس ليس عبس احتقار ، بل هو أقرب إلى عبس المضايقة النفسية التي توجد تقلصا في الوجه عندما يقطع أحد على الانسان حديث لا يستلزم رفع القبح من هذه العملية ، ولو كان هذا التفصي والهروب من الإشكال صحيحا لكانت الغيبة وبقية الصفات المذمومة أيضا كذلك ، فنقسم الغيبة إلى غيبة منشؤها الحقد والحسد ، وغيبة منشؤها الضيق النفسي بأفعال الآخرين "
والخطأ فى الفقرة هو شعور الأعمى بالعبس بقوله" مع أنا لا نسلم أن ابن أم مكتوم لم يشعر بعملية العبس من قبل العابس"
فالعبوس عملية تحدث فى الوجه وال‘مى لا يرى الوجه أو غيره ومن ثم لن يشعر بالعبوس وإنما سيشعر بالتولى وهو عدم الرد عليه وهو الإعراض
ثم اكمل تفسيره فقال:
* ( وتولى ) أي أعرض بوجهه ، كقوله تعالى ( إلا من تولى وكفر ) وقوله ( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) والذي يقتضيه سياق الآيات أيضا أن التولي في المقام فعل سلبي آخر صدر من العابس ، فهو على غرار قوله تعالى ( ثم عبس وبسر )
* ( أن جاءه الأعمى ) أي عبس وتولى بسبب مجيء الأعمى ، والأعمى في المصطلح القرآني عادة ما يكون بمعنى أعمى القلب وفاقد الايمان المشار إليه في قوله تعالى ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وقوله ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) وقوله ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وعليه فالأعمى هنا ليس بالضرورة أن يكون أعمى البصر وفاقد العينين ، بل يمكن أن يكون المقصود منه أعمى القلب والايمان ، وتتبع موارد استعمال هذه الكلمة في سائر آيات الذكر الحكيم لعله يرجح كون المراد من الأعمى في هذه السورة هو أعمى القلب ، إذ هو الأطار العام لاستعمال هذه اللفظة
إن قلت : إن بقية آيات السورة قرينة على أن المراد من العمى هو العمى الظاهري ، مضافا إلى أن السياق العام للآية كاشف عن واقعة حصلت فنزلت هذه السورة
قلت : بل العكس هو الصحيح ، إذ قوله ( وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ) قرينة على أن هذا الأعمى إنما جاء طلبا للتزكية ـ وهو الإيمان والإسلام ـ أو التذكرة ، والانسان لا يطلب الشيء إلا بعد فقده ، وفقد ذلك هو العمى باصطلاح القرآن فلو خلينا والظهور القرآني لا يمكن أن نجزم بكون الأعمى من كان فاقدا للبصر الظاهري ، بل هو أعم من ذلك ومن العمى القلبي ، فتخصيص أو تقييد الآية بالعمى الظاهري بحاجة الى دليل ، وترجيح أن العمى القلبي هو المقصود من الآية له وجه وجيه ولا مجازفة فيه ومن جزم بكون الأعمى هو أعمى البصر فلمكان الروايات المصرحة بنزولها في ابن أم مكتوم وبحثنا الأن في ما هو مقتضى الظهور القرآني وتفسير القرآن بالقرآن ، وسيأتي البحث في
الظهور ومقتضى البحث الروائي وانسجامه مع ما استظهرناه من كتاب الله أو عدم انسجامه "
الرجل نفى أن يكون العمى هنا هو أعمى العين وأيقن أنه اعمى القلب فاقد الإيمان وهو تخريف ما بعده تخريف فلو انه أعمى القلب ما كان لقوله تعالى " أما من استغنى فأنت له تصدى"معنى فالمستغنى هو الأخر أعمى البصيرة فاقد الإيمان ومن ثم لن يستقيم المعنى أنه أعرض عن واحد فاقد الإيمان وجلس مع فاقد إيمان أخر وإنما يستقيم ان يكون المعرض عنه مضاد للمتصدى له
وأما ما استشهد به من آيات فنلاحظ أن الأعمى فيها نكرة بينما الأعمى فى آياتنا معرف فدل على أن المعنى المعروف وهو عمى العين
ثم اكمل التفسير فقال:
* ( وما يدريك لعله يزكى ) أي لا تدري لعل هذا الأعمى يتزكى ويتطهر بالعمل الصالح ، والتزكية هي التخلية والاقتلاع عن الآثام والمعاصي وعلى رأسها الكفر والشرك بالله تعالى ( أو يذكر فتنفعه الذكرى ) بأن يتحلى بالطاعات والأعمال الصالحة والصفات الحسنة إن كان زكيا مؤمنا ولم يرتكب الموبقات ، فالآيتان تشيران إلى حالتي التخلية والتحلية ، والمقصود من الأولى التخلية والاقتلاع عن المعاصي والموبقات المسمات في الذكر الحكيم بـ« التزكية » ، والثانية هو التحلي والاتصاف بالسمات الحسنة والأعمال الصالحة حتى تكون نفسه صالحة
( أما من استغنى ) أي من كان ذا ثروة وغنى ، وقيل أي من استغنى عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن واكتفى بماله
* ( فأنت له تصدى ) أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام به ، وعن ابن عباس : تصدى تقبل عليه بوجهك ، فالتصدي هو إقبال الانسان على الشيء بكله قلبا وقالبا
* ( وما عليك ألا يزكى ) ذهب مشهور المفسرين من العامة أن معنى الآية : أن وظيفتك الإبلاغ سواء آمن السامع أم لم يؤمن فلا يلزمك شيء من عدم تطهره وإيمانه وذهب علي بن ابراهيم القمي في تفسيره أن معنى الآية هكذا : أي لا تبالي زكيا كان أغير زكي إذا كان غنيا"
الماحوزى فى تفسيره السابق ينفى كون الآيات فى النبى(ص)وهو مع ذلك استشهد ببعض تفاسير الشيعة والمحسوبين عليهم فنقل التالى :
"قال العلامة الطباطبائي : قيل : ما نافية ، والمعنى ليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الأعراض والتلهي عمن أسلم والإقبال عليه ، وقيل : ما للاستفهام الإنكاري ، والمعنى وأي شيء يلزمك أن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ ، وقيل : المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور "
الطباطبائى هنا يقول أن الخطاب للنبى(ص) بقوله فى الفقرة "فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ"
ويفترض الماحوزى افتراضات فيقول عن بعض التفاسير:
"والذي أجبره على هذا « الاستيحاء » هو دخوله في تفسير الآيات بعقلية أنها نزلت في الرسول الأكرم (ص) ، ولو افترضنا محالا أنها نزلت فيه (ص) لكان ما قاله هو الحق الذي يجب أن يتبع "
وهو يحرف المعنى فيفترض الافتراض التالى:
"وإن قلنا تنزلا أنها نازلة في الرسول الأكرم (ص) وأنه هو المعني بها ، إذا التصدي للأغنياء والمترفين في الآية يقابله التلهي عن الفقراء والمعدمين ، فلوجه المقابلة نعرف أن التصدي هو الاهتمام والتقدير والاحترام للأغنياء ، ويقابله التلهي عن الفقراء وعليه فلا بد أن يكون معنى التصدي في الآية بمعنى التعرض والاهتمام والاحترام ، والتلهي بمعنى التشاغل وعدم المبالاة ، فالآية تدعو إلى المساواة في الدعوة إلى الإسلام ، إذ هو الواجب الملقى على عاتق الرساليين ، وهداية الناس وعدمها بيد الله تعالى المشار إليه في قوله ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) ، فليس الآية فقط في مقام توبيخ العابس بل حتى لو لم يتحقق العبس لا بد من المساواة في الدعوة والتبليغ
عتاب وتوبيخ"
حرف المعنى من الأعمى والكفار إلى الفقراء والأغنياء فالأعمى قد يكون غنيا وقد يكون فقيرا ومن ثم لا تصلح الآيات لتكون بين فقراء وأغنياء
وقد بين على لسان الطباطبائى أن الآيات الأولى تتكلم عن غائب بينما الآيات من أول الثالثة آيات خطاب تخاطب حاضرا فقال :
"قال العلامة الطباطبائي : وفي الآيات الأربع عتاب شديد ويزيد شدة باتيان الآيتين الأوليين في سياق الغيبة ـ ضمير الغائب ـ لما فيه من الإعراض عن المشافهة والدلالة على تشديد الإنكار وإتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ وإلزام الحجة بسبب المواجهة بعد الإعراض والتقريع من غير واسطة
قال : وفي التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أن المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقدا للبصر وكانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحري أن يرحم ويخص بمزيد الإقبال والعطف لا أن ينقبض ويعرض عنه "
ومن ثم كان الأولى أن يفترض أن الآيتين الأوليين قصة وما بعدهما قصة اخرى وما بينهما تم حذف باقى القصة الأولى وأول القصة الثانية أو وهو الصحيح ان الآيتين الأوليين من القرآن وباقى الآيات هى تفسير الذكر وهو تفسير الله المنزل على النبى(ص) لبعض تلك القصة وأن من جمعوا المصحف هم من حذفوا التكملتين وأدخلوا الكلام فى بعضه
ونقل عن ابن زيد أن المراد من الآيات هو ذم المشركين فقال :
"وقال ابن زيد لو أن رسول الله (ص) كتم من الوحي شيئا كتم هذا عن نفسه ومن كل ما مر تعرف وهن من قال : أن الآيات لا لوم فيها ولا عتاب على النبي ولا على الأعمى وإنما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبي (ص) بقصد أن يستعملهم ويرغبهم في الإسلام "
وقد رد الماحوزى عليه فقال :قلت : أما الأعمى فكما قال ، وأما العابس فالقول بعدم توجه العتاب واللوم إليه سد لحجية ظواهر القرآن بل صريحه ، وأما المشركين فلا تعرض لهم في الآية من قريب ولا من بعيد ، ومنشأ تصريحه بذلك ـ هو كما قلنا في غيره ـ دخوله في تفسير الآية بعقلية أنها نازلة في الرسول الأكرم (ص)"
وتحت عنوان سياق الآيات وتحديد العابس عاد الماحوزى لنفى كون العابس هو النبى(ص) فقال :
"هذا فيما يرتبط بصفات العابس ، أما من هو العابس ، فسياق الآيات لا يدل على أن العابس هو الرسول الأكرم (ص) ، إذ قوله « عبس وتولى » فعلان ماضيان والضمير « هو » لغائب ، فلو كان العابس هو الرسول (ص) لقال تعالى « يا أيها النبي لم عبست وتوليت أن جاءك الأعمى وما يدرك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى » ولا إخلال بالبلاغة والفصاحة حينما يأتى بضمير المخاطب كما لا يخفى إن قلت : إنما لم يأت بضمير المخاطب إجلالا للرسول الأكرم (ص) ، إذ العبوس مما لا ينبغي أن يصدر عنه قلت : قوله تعالى «أما من استغنى فأنت له تصدى فأنت عنه تلهى ) أشد تقريعا وعتابا وتوبيخا فلم جيئ فيها بضمير المخاطب ، فمن باب إجلال النبي (ص) كان ينبغي أن يأتي بها بضمير الغائب كعبس وتولى ضمير المخاطب ودعوى : أن قوله تعالى ( فأنت له تصدى فأنت عنه تلهى ) المخاطب به هو الرسول الأكرم (ص) ، فالمقصود من « أنت » أي أنت يا رسول الله ، وبما أن المتصدي للأغنياء والمتلهي عن الفقراء متحد مع الذي عبس وتولى لا شخص آخر ينتج أن الرسول الأكرم (ص) هو الذي عبس وتولى "
وحجة الماحوزى هو ان القرآن نزل على قول الشاعر :
" بإياك أعني واسمعي يا جارة "
فيقول ناقلا من بطون كتب الروايات وغيرها أن كل ما كان فى القرآن من ذم فليس به المراد النبى(ص) وإنما غيره وفى هذا قال :
" وذلك لأن القرآن كله خطاب للرسول الأكرم لا يعني بالضرورة أن يكون هو المقصود من الآية ، فلا بد من التفريق بين كونه خطابا له وبين كونه المقصود من الخطاب وفيه نزلت الآية وعن محمد بن سعيد الأذخري وكان ممن يصحب موسى بن محمد بن علي الرضا أن موسى أخبره أن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فيها ، وأخبرني عن قول الله عز وجل ( فإن كنت في شك مما نزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك ) من المخاطب بالآية فإنك أن المخاطب النبي (ص) أليس قد شك فيما أنزل الله عز وجل إليه ، فإن كان المخاطب به غيره فعلى غيره إذا أنزل الكتاب قال موسى : فسألت أخي علي بن محمد الهادي عن ذلك قال : أما قوله ( فإن كنت في شك ) فإن المخاطب بذلك رسول الله (ص) ولم يكون في شك مما أنزل الله عز وجل
وفي صحيحة ابراهيم بن عمر رفعه إلى أحدهما في قول الله عز وجل لنبيه (ص) ( فإن كنت ) قال : قال رسول الله (ص) : لا أشك ولا أسئل
فمن حيث السياق لا يمكن الجزم ـ بل الظن ـ بكونها نازلة في الرسول الأكرم (ص) ، إذ القرآن مليء بالآيات النازلة بنحو « إياك اعني واسمعي يا جارة » ، "
كلام الرجل ودفاعه المستميت هو ناتج من عقيدة ينفيها عن اهل السنة ومع هذا هى موجودة عند السنة والشيعة وهى عصمة النبى(ص) وهى عقيدة فاسدة فالنبى(ص) بشر كما قال تعالى " قل إنما أنا بشر مثلكم" وأى بشرى معرض لارتكاب الذنوب
الرجل يقول أن قول كقوله تعالى "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"هو فى غير النبى(ًص) وهو كلام خبل فلو كان المراد غيره لذكر فقط "واستغفر لذنبك" ولكنه هنا فضل نفسه والمؤمنين والمؤمنين فلا يمكن أن يكون المراد لذنبك
كما لا يمكن ما يسمونه اللوم والعتاب فى قوله تعالى "وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعياءهم إذا قضوا منهن وطرا"
فاللوم والعتاب هنا فى النبى(ص) دون غيره لأنه من تزوج طليقة زيد
إذا هناك آيات لا يمكن أن توجه للأخرين ولا يوجد عصمة لأحد من الخلق فالعصمة تكون فى حالة واحدة وهى غير موجودة وهى ألا يوجد وحى فيكون النبى نفسه هو الوحى من خلال أقواله وأفعاله وأما والوحى موجود فلا يمكن أن توجد عصمة لمخلوق
ثم عاد وتحدث عن العابس من خلال السياق فقال:
"معنى الآيات وتحديد العابس:
هذا كله من حيث سياق الآيات وقد عرفت أنها لا تدل على أن المقصود هو الرسول الأكرم (ص) ، أما من حيث المعنى فلا شك في كون العابس والمتولي والمتصدي والمتلهي غيره (ص) لأمور :
الأول : أن العبس وهو التقطيب في الوجه صفة ذميمة ـ كما تقدم ـ وصف بها في القرآن الكريم العتل الزنيم المشرك الكافرالوليد بن المغيرة في قوله ( ثم عبس وبسر ) فلا يمكن أن يتلبس بها الرسول الأكرم (ص) ولو لمرة واحدة ، كيف !! وهو الذي قال عنه القرآن ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وقوله ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
وسئلت عائشة عن خلقه فقالت : كان خلقه القرآن ، فمن يكون خلقه عظيما لا يمكن أن يتلبس بالضيق القلبي والعبس والتقطيب في وجوه المؤمنين ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) والرحمة والتعبيس والتقطيب لا يجتمعان دوما وأبدا كما يتنافى مع قوله (ص) في الحديث المعروف عند الخاصة والعامة « أدبني ربي فأحسن تأديبي » وقول الصادق « إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فقال ( وإنك لعلى خلق عظيم ) "
نفى العبوس والتقطيب عن النبى(ص) نهائيا يخالف أمر الله بالغلظة على الكفار فى قوله تعالى "واغلظ عليهم" كما ينافى نهى الله له عن بخع نفسه وهو التحسر والحزن كما قال تعالى " لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا"
والحزن وما يتبعه من علامات يحدث للرسل(ص) كما حدث مع يعقوب(ص) وفيه قال تعالى "وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"
وأما قوله:
"الثاني : أن العابس كما تقدم هو المتصف بكونه متصديا للأغنياء ولاهيا عن الفقراء والمؤمنين ، والرسول الأكرم يجل أن كون خلقه كذلك ، فلا فرق عنده بين العبد والسيد والعربي والأعجمي"
النبى(ص) كما قلنا بشر يحدث منه ما يحدث منهم وقد كاد أن يضل بطاعته للكفار فيما يطلبون وفى هذا قال تعالى "وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا"
وقال:
"الثالث : أن الرسول مأمور بخفض الجناح للمؤمنين ( واخفض جناحك للمؤمنين ) ، ومأمور بالإعراض عن المشركين ( فاصدع بما تأمر وأعرض عن المشركين ) وكلا الآيتين من سورة الحجر وقد نزلت قبل سورة عبس ، فالالتزام بكون الآية نازلة في الرسول معناه أن الرسول (ص) أعرض عن المؤمنين وخفض الجناح للمشركين "
وأما قوله أن الإعراض يكون عن الكفار فقط فهو يناقض وجود إعراض عن بعض المؤمنين كما قال تعالى "و إذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض "
وقال فى التائبين من الزنى الرجالى بعد عقابهما :
"واللذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما"
وقال :
"الرابع : كان بإمكان الرسول (ص) أن يلفت انتباه ابن أم مكتوم أنه مشغول مع القوم وأن يأتي له في وقت آخر حتى يكون بخدمته ، لا أن يعبس في وجهه ويعرض عنه ، ولو كان هكذا لما توانى ابن أبي مكتوم في تلبية طلب الرسول (ص) ، لأنه يرجو من كل قلبه أن يسلم صناديد قريش كما أن كل من له حظا من الأخلاق الحسنة إذا كان مشغولا مع قوم في حديث مهم ودخل عليه من يقطع كلامه مع القوم يلتفت إلى المعترض ويقول له بأدب ولطف : لو سمحت دعني والقوم ، وأجل حديثك إلى وقت آخر ، فكيف بالموصوف في القرآن بأنه خلقه عظيم وأنه شفوق وعطوف ورؤوف بالمؤمنين "
الماحوزى هنا لو كان صاحب الرسالة لعلم أن نفس النبى(ص) تكون متضايقة جدا عندما لا يجد مؤمنين به خاصة من كان يصدقونه من الكبار قبل البعثة ومن ثم فنفسيته قد تكون فى تلك اللحظات فى حالة يرثى لها
وقال :
"الخامس : لو كان المقصود من الآيات هو النبي (ص) فكيف نلائم بين قوله تعالى مدحا للرسول ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وبين قوله ( وما عليك ألا يزكى ) ، إذ هو (ص) مخاطب ومقصود بتزكية الناس جميعا فكيف يخاطب في هذه السورة بأنه ليس مسؤولا عن تزكية قومه ، فيتعين ما ذهب إليه القمي قدس سره من كون معنى الآية : لا تبالي أزكي كان الغني أم لم يكن ، واذا تعين هذا التفسير ـ وهو كذلك ـ فالقول بأن المقصود منه هو الرسول الأكرم (ص) جرأة وإنكار لما هو ضروري
قال السيد المرتضى : وكيف يقول له ( وما عليك ألا يزكى ) وهو (ص) مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون عليه ذلك "
ما قاله الماحوزى هنا ضرب من الخبل فالكلمة فى القرآن تأتى بعدة معانى فالتزكية فى أية الأميين لا تزيد عنه كونها التعليم أى إبلاغ الرسالة والتزكية فى أية عبس اعنى يسلم فليس من مسئولية النبى(ص) أو غيره ان يسلم غيره فكل ما عليه هو إبلاغه الرسالة فقط كما قال تعالى :
"إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل"
فمن يسلم يسلم لنفسه ومن يضل فهو يسيىء لنفسه
ويأتينا الرجل بوجهة نظر غريبة من كتب البعض وهى أن المذنب فى المر هو الأعمى فيقول:
"إن قلت : أن ما فعله ابن أم مكتوم كان نوعا من اساءة الأدب ، فيحسن تأديبه بالإعراض عنه والعبوس قلت : لو كان ذلك صحيحا إذن فلم هذا العتاب من قبل الله عز وجل على أمر يستحقه ابن أم مكتوم ، أضف إلى أن العتاب متوجه بصورة مؤكدة على من يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء ، فمنشأ الإعراض عن ابن أم مكتوم لكونه من فئة الفقراء والمحتاجين ، فلهذا تأكد العتاب والتوبيخ وتغلظ
ومنه تعرف جواب ما في تفسير « من وحي القرآن » من قوله : أن « العبوس » لن يكن عبوس احتقار ، وإنما كان عبوس مضايقة بسبب قطع ابن أم مكتوم لكلامه مع صناديد قريش ، إذ لو كان كذلك يأتي نفس الجواب لم هذا العتاب الشديد على عبوس منشأه المضايقة لا الاحتقار ، وما الربط بين العبوس المضايقي والتصدي للأغنياء والتلهي عن الفقراء والمؤمنين ؟!!
وحدة الحال
وقوله : إن دراستنا لعلاقة النبي (ص) بهذا الأعمى تدل على أن هناك صلة وثيقة بينهما بحيث كان يدخل على النبي (ص) وهو جالس بين زوجاته ، وقد اشتهرت الرواية التي تتضمن دخوله عليه وعنده عائشة وأم سلمة ، فقال لهما : احتجبا فقالتا : إنه أعمى ، فقال : أنتما ؟ بالإضافة الى استخلافه عليها عند خروجه إلى الغزو فإنه يدل على عمق الصلة منذ البداية أن ذلك كله قد يوحي بوحدة الحال بينه وبين النبي (ص) بحيث يغيب عن العلاقة أي طابع رسمي ، مما يجعل أعراض النبي (ص) اعتمادا على ما بينه وبينه من الصلة التي تسمح له بتأخير الحديث معه إلى فرصة أخرى من دون أن يترك أي أثر سلبي في نفسه لا سيما إذا كان ذلك لمصلحة الدين التي تهم أي مسلم في زمن الدعوة الأول أن يحصل النبي على إيمان أي شخص من كفار قريش الوجهاء في مجتمعهم باعتبار أن ذلك يخفف العذاب والحصار على المسلمين المستضعفين ومنهم ابن أم مكتوم ، وبذلك يكون أعرض النبي (ص) عنه كإعراضه عن أحد أفراد أصحابه أو عائلته اتكالا على ما بينه وبينه
ففيه : أولا أنا لا نسلم بهذه الوحدة إذ شأن ابن أم مكتوم كشأن بقية الصحابة ، ولكونه أعمى لا تحرز من دخوله بيوت النبي (ص) ، وما ذكره من روايات منقولة عن العامة وأهل الحشو إن سلمنا بصحتها فقاصرة عن اثبات وحدة الحال ، واستخلافه على المدينة مرتين لا يلازم ذلك أضف إلى أن وحدة الحال والتي بمعنى غياب الطابع الرسمي ، بين الرسول (ص) وبين ابن أم مكتوم ـ إن سلمنا بها ـ لا يعني الخروج عن الآداب الشرعية والعبس في وجوه الأهل والأصدقاء ، فرفع التكلف مع الأصدقاء لا يعني التجرأ عليهم واستحقارهم وعدم الاهتمام بهم وقلة الأدب معهم ، فالمرفوع مع الأهل والأصدقاء هو التكلف لا الأدب ، فما في القول المشهور « بين الأحباب تسقط الآداب » معناه تسقط الكلفة والرسميات ، وفي هذا قال ضرار واصفا لأمير المؤمنين « كان فينا كأحدنا » أضف أن الآخرين قد لمسوا منه نفوره من ابن أم مكتوم وهذا كاف في الحكم بالقبح ، بتقريب أنه سوف يتبادر للحاضرين ان الذي يدعوهم إنما يدعوهم لكونهم أغنياء ، وإنه لو كان ابن أم مكتوم من الأغنياء لما عامله هذه المعاملة "
من تحدث بهذا الكلام ى يدرى الإنسان من اين أتى بكون المعبوس فى وجهه المتلهى عنه هو المذنب والآيات كلها تعاتب العابس المتلهى عنه
وقد نقل الرجل من بطون الكتب ما يلى:
"كلمات بعض الأعلام في نزول الآية:
قال الفيض الكاشاني : وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبي (ص) دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه وكذا ما ظهر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على المتأمل بأساليب الكلام ، ويشبه أن يكون مختلقات أهل النفاق والحشوية الذي من عادتهم الافتراء على الأنبياء ونسبة السوء إليهم في بعض الأمور
وبهذا وما تقدمه يظهر الجداب عما قيل : إن الله سبحانه لم ينهه (ص) عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع ، لو سلم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق وقد عظم الله خلقه صلى الله وآله قبل ذلك إذ قال ( وإنك لعلى خلق عظيم ) وأطلق القول والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها
وقال الشيخ مكارم الشيرازي : إن المشهور بين المفسرين في شأن النزول هو نزولها في شخص النبي (ص) ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى"
وقد سبق مناقشة أن الآيات نزلت فى غير النبى(ص) وأن من وجهوا الآيات لغير وجهتها سبب فعلهم هذا هو اعتقادهم عصمة الرسل (ص) من الذنوب
وفى الجزء الثانى من البحث استعرض ما جاء فى الروايات فقال:
"المقام الثاني : البحث الروائي:
وفي هذا المقام لا توجد إلا روايتان مرسلتان :
الأولى : صرحت أن العابس هو عثمان بن عفان
والثانية : ربما يستفاد منها أن العابس هو الرسول الأكرم (ص) ذكرهما الطبرسي في مجمع البيان
قال : روي عن الصادق أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (ص) فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه
* وقال : وروي عن الصادق أنه قال : كان رسول الله (ص) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم ، قال : مرحبا ، والله لا يعاتبني الله فيك أبدا ، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي (ص) مما يفعل به وبما أن الروايتين مرسلتان فلا يمكن الاعتماد عليهما وترجيح أحدهما على الأخرى ، إذ الترجيح فرع الحجية ، ولا حجية لهما للإرسال ، والفاصلة بين الطبرسي والإمام الصادق كبيرة جدا ، فلو كان المرسل هو الكليني في الكافي ، أو الصدوق في كل كتبه وبالخصوص في كتابه « من لا يحضره الفقيه » أو علي بن ابراهيم في كتابه التفسير لأمكن اعتبار هذا الإرسال "
الروايات هنا انتقدها الماحوزى وأكمل النقد فقال :
"* ومع عدم التسليم بذلك هناك مرجحات أخرى للرواية الأولى وهي :
الأول : أن الرواية الثانية مخالفة للقرآن الكريم الواصفة للرسول الأكرم (ص) بأنه ذو خلق عظيم وأنه رؤوف بالمؤمنين عطوف عليهم ، وقد أمر الأئمة عليهم السلام أصحابهم بعرض الأحاديث على كتاب الله فإن وافقت كتاب الله فهي ، وإلا ضربت عرض الحائط"
ثم بين سبب قبوله لرواياته مذهبه فقال :
"فإن قيل : أن العبس من ترك الأولى فلا ينافي العصمة وخلقه العظيم وكونه بالمؤمنين رؤوف رحيم ففيه :
1/ أن العبس لو سلمنا أنه من ترك الأولى فهو مقبول في حق بقية الأنبياء دون النبي الخاتم (ص)
2/ كما يمكن القول بأن ترك الأولى إن كان متصورا في بقية الأنبياء والمرسلين لكن ذلك فيما كان قبل النبوة والاجتباء لا ما كان بعد الاجتباء فصحيح أن العبس لا ينافي العصمة من الذنوب والمحرمات لكنه ينافي الأخلاق العادية فضلا عن الأخلاق العالية العظيمة ، فلا يمكن القول به في حق الرسول الأكرم (ص)
الثاني : أن الرواية الثانية موافقة للعامة ورواياتهم ، وقد استفاضت الأخبار عن طريق أهل البيت عليهم السلام أنه إذا اختلفت الأخبار عنهم يؤخذ بما خالف العامة ويترك ما وافقهم ففي صحيحة الحسن بن جهم قال : قلت للعبد الصالح : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم ؟ فقال : لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا ، فقلت : فيروى عن أبي عبد الله شيء ، ويروى عنه خلافه ، فبأيهما نأخذ ؟ فقال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه
الثالث : أن الآيات في مقام عتاب وتأنيب وتوبيخ للعابس المتولي وقد ورد عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله قال : ما عاتب الله نبيه فهو يعني به من قد مضى في القرآن مثل قوله ( لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) عني بذلك غيره
الرابع : وهو ضابطة كلية شاملة لكل آيات الذكر الحكيم وهي قول الباقر لمحمد بن مسلم « يا محمد إذا سمعت الله ذكر أحدا من هذه الأمة بخير ، فهم نحن ، وإذا سمعت الله ذكر قوما بسوء ممن مضى ، فهم عدونا » ومن الواضح أن التعبيس والتولي والتصدي للأغنياء لغناهم والتلهي عن الفقراء قول سوء"
وبين ـأن روايات السنة ضعيفة ومتناقضة فقال :
"وروايات العامة في سبب نزول الآية كلها مرددة بين ضعف السند والإرسال فيه ، لأنها تنتهي إلى كل من أنس بن مالك وابن عباس وعائشة ، أما الأول فإنه مدني لم يكن بمكة وقت نزول الآية وكان صغيرا أيضا ، وأما الثاني وعائشة فإما أن يكونا رضعين أو لم يولدا
هذا مع اختلاف الروايات في تحديد من كان الرسول (ص) يناجيه ، ففي بعضها أنه عتبة وشيبة ، وفي أخرى أنه جمع من وجوه قريش منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة ، وفي رواية ثالثة أنه عتبة والعباس وأبو جهل ، وفي رابعة أنه العباس وأمية وصفوان ،وقد قيل بأن ابن أم مكتوم لم يجتمع مع المذكورين في مكة
قال ابن العربي الفقيه : أما قول علمائنا أنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون أنه أمية بن خلف والعباس ، وهكذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين"
والرجل يدافع دفاعا مستميتا بأمور ليست من الدين فكلام الأئمة ليس وحيا فالقرآن هو الوحى هو والذكر أى تفسير الله ومع هذا يطالب حسب ما قيل فى المذهب لمخالفة مذاهب المخالفين حتى لو كان عليها أدلة
ومن ثم بنى الحكم التالى :
"ولا أحد يشك بأن الرسول الأكرم (ص) هو الإنسان الكامل فلو كان هو العابس والمتولي لما كان هو المصداق الأتم للإنسان الكمال وللخلق الإنساني "
قطعا لا يوجد كامل من المخلوقين وإنما الكمال للخالق وحده وإلا أشبه الله فى أنه لا يضل كما قال تعالى على لسان موسى(ص) " لا يضل ربى ولا ينسى"
الغريب أن الشيعة يعترفون فى كتبهم كما فى كتاب ميزان الحكمة للريشهرى ج1 ص338برواية " كل ابن آدم خطاء"
وكرر الرجل مسألة أخرى سبق وأن تناولها كحجة فى نفى الذنوب فقال:
"عتاب الرسول على أخطاء أمته:
هذا كله : على فرض استفادة أن العابس هو رسول الله (ص) من الرواية الثانية ، واستفادة ذلك محل إشكال ، إذ القول المنسوب له على لسان الرسول الأكرم (ص) « والله لا يعاتبني الله فيك أبدا » لا يستلزم كون العابس هو بأبي وأمي وأهلي ومالي وأسرتي
ففي صحيحة عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله : قول الله في كتابه ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) قال : ما كان له ذنب ، ولا هم بذنب ، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له "
الرجل يحاول جعل النبى(ص) مشابه لله هو والأئمة بنفى ارتكاب الذنوب عنه وعنهم رغم أن النصوص واضحة لا يمكن أن ينفيها والسؤال إذا من هو الضال فى قوله تعالى " ووجدك ضالا فهدى"؟
ومن هو الغافل فى قوله تعالى "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين"
فهل القرآن نزل على الناس أم عليه ؟
وقد تناول الماحوزى فى كتابه هذا ما جاء فى تفسير من وحى القرآن وكرر الكلام عدة مرات منها قوله:
"وما في : تفسير « من وحي القرآن » من تعين كون العابس هو الرسول الأكرم (ص) وترجح الرواية الثانية على الأولى بدعوى أن الحديث عن رجل من بني أمية لا تتناسب مع أجواء الآيات لأن الظاهر من مضمونها أن صاحب القضية يمتلك دورا رساليا ويتحمل مسؤولية تزكية الناس ، حتى يفرض توجيه الخطاب إليه للحديث معه عن الفئة التي تحمل مسؤولية تزكيتها غير صحيح لأمور :
الأول : كون العابس له دورا رساليا لا يلزم منه وليس بالضرورة أن يكون هو الرسول الأكرم (ص) ، إذ كل المسلمين آنذاك مطالبون بنشر الرسالة وبث الهداية في المجتمع المكي وغيره
الثاني : استفادة أن العابس له دور رسالي أول الكلام ، إذ ليس بالضرورة أن يكون العابس له ذلك ، إذ الموقف كان بحضرة الرسول الأكرم (ص) ، وكان هم هذا العابس إسلام أصحاب رؤوس الأموال والمترفين من صناديد قريش لما يترتب على إسلامهم من قوة وعزة للإسلام
الثالث : أن منشأ ذهابه إلى كون العابس له دور رسالي قوله تعالى ( وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ) فلو لم يكن له دور رسالي لم يأت له من يخشى طلبا للهداية والتزكية ، ونحن قد أجبنا على مثل هذا وقولنا بأن هذا الخطاب من قبيل « إياك أعني واسمعي يا جارة »
وهناك أمر رابع سيأتي ذكره في ما بعد ، مستند إلى القراءة التي نسبت إلى الإمام الباقر من قراءته قوله تعالى « تصدى ، تلهى » بضم التاء على هيئة الفعل المبني للمجهول وليعلم : أنا في مقام نفي كون العابس والمتولى هو الرسول الأكرم (ص) ، أما كونه عثمانا أو رجلا آخر من بني أمية ، أو أن الأعمى هو ابن أم مكتوم أو غيره فلا يهمنا ذلك بعد نفي كون الآيات نازلة في الرسول الأكرم (ص) ، فليكن العابس عثمان أو غيره لا يهم "
وقد سبق مناقشة هذا الكلام فعقيدة العصمة أيا كان نوعها ناقصة كما عند السنة أو كاملة عند الشيعة ليس له معنى سوى تكذيب نصوص القرآن والقرآن لا يكذب والكاذب هو غيره وهذه العقيدة خاصة التامة تجعل المخلوق مثل الخالق وهو ما لا يقوله مسلم