حديث فى حكم التشريح
تناول الكاتب فى كتابه فقه النوازل التشريح فنقل من المعاجم التالى:
"التشريح في اللغة: الكشف ، ومنه شريح اللحم والقطعة منه شريحة ، وكل مقطوع من اللحم ممتد فهو شريحة وفي المعجم الوسيط 1/478 شرح اللحم شرحاً قطعه قطعاً طوالاً رقاقاً ، والشيء بسطه ووسعه ، وشرح اللحم شرحه والجثة فصل بعضها عن بعض للفحص العلمي"
وقد بين أن هناك تاريخ قديم للتشريح بقوله :
"لقد مورس التشريح قديماً كما يدل على ذلك كلام الرازي وابن سينا وابن النفيس وابن الهيثم وابن رشد ونقل بعض العلماء نقولاً عن بعض الأطباء ممن مارسوا التشريح وممن نقل ذلك عنهم ابن حجر وابن رجب وابن القيم والقرافي والنووي والغزالي وغيرهم (رحمهم الله)"
ومع اعترافه بهذا ناقض نفسه فاعتبر التشريح شىء جديد فقال ":
"ولما كانت الشريعة الإسلامية لا تجيز العبث والتمثيل بجثث الموتى ، فإنه يرد السؤال عن حكمها في هذا النوع من الجراح ، وهو سؤال يعد من النوازل الفقهية التي جدت ، وطرأت في عصرنا الحاضر"
وهو أمر ليس جديدا كما قال فى الفقرة قبل السابقة وننقل هنا من كتاب تشريح شره القانون لابن سينا التالى:
"فوائد علم التشريح:
انتفاع الطبيب بهذا العلم بعضه في العلم، وبعضه في العمل، وبعضه في الاستدلال وأما انتفاعه في العلم والنظر، فذلك لأجل تكميله معرفة بدن الإنسان، ليكون بحثه عن أحواله وعوارضه سهلاً وأما انتفاع بالعمل فمن وجوه: أحدها أنه يعرف به مواضع الأعضاء فيتمكن بذلك من وضع الأضمدة ونحوها حيث يسهل نفوذ قواها إلى الأعضاء المتضررة
وثانيها: أنه يعرف به مبادئ شعب الأعضاء ونحوها، ومواضع تلك المبادئ فيتمكن من عرض لها خروج عن ذلك بخلع أو نحوه
ورابعها: أنه يعرف به أوضاع الأعضاء بعضها من بعض فلا يحدث عند البط ونحوه قطع شريان، أو عصب، ونحو ذلك وكذلك لا يقطع ليف بعض العضلات في البط ونحوه وذلك لأجل تعرفه مذاهب ألياف العضل وأما انتفاع الطبيب بهذا الفن في الاستدلال، فذلك قد يكون لأجل سابق النظر، وقد يكون لغير ذلك
أما الأول: فكما إذا احتاج الطبيب إلى قطع عضو، فإنه إن كان عالماً بالتشريح تمكن حينئذ من معرفة ما يلزم ذلك القطع من الضرر الواقع في أفعال الشخص فينذر بذلك فلا يكون عليه بعد وقوع ذلك الضرر لائمة
وأما الثاني: فكما إذ كان يستدل به على أحوال الأمراض أما أمراض الأعضاء الظاهرة، فكما يستدل على أن ابتداء الرمد هو من السمة وذلك إذا شاهد الانتفاخ يبتدئ أولاً من الجفن وأما أمراض الأعضاء الباطنة، فإن الطبيب ينتفع به في الاستدلال عليها سواء كان ذلك الاستدلال من جواهر الأعضاء أو من أعراضها، أو منهما جميعاً أما الاستدلال من جوهر الأعضاء فإما أن يكون مما يبرز من البدن أو لا يكون كذلك
والثاني: كما يستدل حين الآفة في هضم المعدة على أن الآفة في طبقاتها الخارجة، وأسافلها، وحين هي في الشهوة على أن الآفة في أعلى طبقتها الداخلة، وذلك لأن خارج المعدة وأسافلها لحمى، وهضمها باللحم وأعلى باطنها عصبي، والحس بالعصب
والأول إما أن يكون بروز ذلك البارز من مخرج طبيعي أو لا يكون كذلك
والثاني: كما يستدل بالقشور الخارجة مع القيء على قروح في المعدة أو المريء
والأول: إما أن يكون ذلك المخرج هو مخرج الثفل كما يستدل بالقطع اللحمية الخارجة في اختلاف الدم على أنها أجزاء من الكبد أو هو مخرج البول، وذلك كما يستدل بالقشور النخالية الخارجة مع وجع المثانة على حرث فيها
وأما الاستدلال من أعراض الأعضاء، فإما أن يكون بالأعراض التي هي للأعضاء في نفسها، أو التي لها بالقياس إلى غيرها أو بهما معاً
أما الاستدلال بالأعراض التي هي للأعضاء في أنفسها، فكما يستدل بشكل العضو أو بلونه أو بمقداره وأما بشكله فكما يستدل على أن الورم الذي يكون تحت الشراسيف اليمنى كبدي، بأنه معترض كرى الشكل أو هلالي وعلى أنه في العضلة التي فوقها بأنه متطاول أو معترض أو مؤرب وأما أن يكون بلون العضو فكما يستدل على أن الرمل الخارج ليس من المثانة بأنه أحمر، وعلى أنه ليس بأحمر، وذلك لأن تولد كل عضو إنما يكون من فضل غذائه، فيكون شبيهاً بلونه، وأما غلظ العضو، فكما يستدل على أن القشرة الخارجة مع البراز من الأمعاء الغلاظ بأنها كبيرة غليظة، وعلى أنها من الأمعاء الدقاق، بأنها صغيرة رقيقة"
ومن كلام ابن سينا فالتشريح الغرض منه علم الطبيب بكيفية علاج كل جزء من الأعضاء
وأما كاتبنا فقد بين أن أغراض وهى أهداف التشريح الطبى ثلاثة هى فقال:
"أغراض التشريح:
1- التشريح الجنائي ومصلحته ظاهرة لردع المجرمين وإظهار براءة المتهم ولمعرفة سبب الوفاة في حوادث القتل وكذا في حالة القتل والوفاة المجهولة السبب كوجود ميتٍ على شط البحر لمعرفة المدة التي كانت الضحية فيها بالماء وهل كانت على قيد الحياة قبل إلقائها وتحديد العمر والجنس من خلال جمع الأعضاء
2- التشريح المرضي: لمعرفة الأمراض وتأثيرها والتعرف على المرض وعلاجه ، ومعرفة ما إذا كان هناك وباء فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة
3- التشريح التعليمي لمعرفة الأعضاء ووظائفها ولإخراج الأطباء المهرة إذ يحتاج الأطباء أثناء تعلمهم للجراحة الطبية إلى تدريب عملي ويتم ذلك التدريب عن طريق تشريحهم لجثث الموتى ، وهو ما يسمى بالجراحة التشريحية ، والتي تشتمل على تقطيع أجزاء الجثة ، ثم يقوم المشرح بعد ذلك بدراستها ، وفحصها ، وقد تمتد تلك الدراسة إلى فحص الأنسجة تحت الميكروسكوب ، وهو ما يسمى بالتشريح الميكروسكوبي ، أو علم الأنسجة فإن قيل: وجدت الآن بدائل من الوسائل الحديثة مما يشبه أعضاء الجسم من البلاستيك وغيرها وأيضاً يمكن الاستغناء بتشريح الحيوانات مما يقلل من الحاجة لتشريح الإنسان فالجواب: أن هذه البدائل لا تغني عن التشريح إذ لا بد من أخذ عينات وفحصها تحت المجهر ، وكذلك الحال بالنسبة لتشريح الحيوانات مما فيه التشابه مع الإنسان وهي الثدييات (وهي التي تلد وتضع أولادها) فهو لا يعطي صورةً صادقةً لأن دماغ الحيوان يختلف وهيكلها العظمي كذلك والأحشاء الداخلية تختلف في نِسَبها وشكلها العام عن الإنسان"
ثم بين الكاتب اختلاف الفقهاء فى حكم التشريح فقال :
"وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم التشريح على أقوال:
القول الأول: يجوز تشريح جثث الموتى من الكفار فإن لم يوجد فمن المسلمين إذا أذنوا أو أذن ورثتهم ، وبه صدرت الفتوى من الجهات العلمية التالية: مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية واختاره عدد من العلماء والباحثين
القول الثاني: لا يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعلم ، وهو لجماعة من العلماء والباحثين ومنهم الشيخ محمد بخيت المطيعي"
وبعد هذا ذكر براهين القول الأول فقال:
"الأدلة:
أدلة القول الأول:
1- القياس وذلك من عدة وجوه:
الوجه الأول: يجوز التشريح كما يجوز شق بطن الحامل الميتة ، لاستخراج جنينها الذي رجيت حياته ، فقد قال: الشافعي يشق لأنه إتلاف جزءٍ لإبقاء حيٍ كما لو خرج بعضه حياً ، بشرط رجاء حياة الولد بأن يكون لستة أشهرٍ فأكثر لقوله تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) فإذا كان ذلك حفاظاً على الجنين وهو فرد فيجوز بالأولى إذا تحققت مصلحة عامة ونوقش هذا القياس بأن المقيس عليه مختلفٌ فيه وذلك لأن مصلحة الجنين مظنونة غير متيقنة فقد قال أحمد ومالك: لا يشق ذكره في المغني وذكر احتمالاً بالشق ، وفي تصحيح الفروع: إذا ماتت امرأة حامل شق جوفها
الوجه الثاني: يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم وغيره كما يجوز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه إذا غلب على الظن هلاكها بسببه قال ابن حزم: إذا ماتت وفي بطنها ولدٌ قطع وأخرج أما إذا كان حياً فلا يجوز لأن تقطيعه لا يقتضي إنقاذ الأم
الوجه الثالث: يجوز تشريح جثة الميت كما يجوز شق بطنه لاستخراج المال المغصوب الذي ابتلعه طلباً لمصلحة الحي المتمثلة في إنقاذه من الموت من أجل مصلحة حاجية وهي رد المال المغصوب إلى صاحبه
وكلتا هاتين المصلحتين موجودتان في حال تعلم الجراحة الطبية ، إذ يقصد منها تارة إنقاذ حياة المريض وهي المصلحة الضرورية ، كما يقصد منها تارة أخرى إنقاذ المريض من آلام الأمراض والأسقام المضنية وهي المصلحة الحاجية وكذلك الحال في التشريح الجنائي والمرضي بل أولى ونوقش أيضاً بأن المقيس عليه مختلفٌ فيه فقد أجاز ابن حزم الشق للمال لأنه لا ضرر على الميت وقال الحنفية: لا يجوز إذا كان قد ترك مالاً ، بل تُدفع قيمة المال من تركته ، قال ابن نجيم : لا يشق لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال وأجاز المالكية شق بطن من ابتلع مال غيره قبل وفاته إذا كان له قدر بأن يكون نصاباً (إما نصاب السرقة أو الزكاة قولان) ذكره خليل والخرشي وقيده ابن شبير بأن لا يكون للميت مال ، ويؤدي منه ما ابتلعه قبل وفاته ، وأما إذا كان قصده حرمان الورثة فيشق عندهم بلا خلاف لأنه عندهم كالغاصب وعند الحنابلة تفصيل ذكره ابن قدامة فإن كان المال لغيره وبلعه بلا إذنه فوجهان : أحدهما يشق إن كان كثيراً إذا لم يلتزم أحد الورثة بدفع قيمته أو مثله ، لأنه لدفع ضرر المالك برده إليه ، وعن الميت بإبراء ذمته ، وعن الورثة بحفظ التركة لهم ، والثاني: لا يشق بل يغرم من تركته لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجوة حياته فمن أجل المال أولى ، وأما إن كان المال الذي ابتلعه ماله فلا يشق لأنه استهلكه في حياته ، قال ابن قدامة: ويحتمل إن كان يسيراً تُرك ، وإن كثرت قيمته شُق بطنه وأُخرج لأن فيه حفظ المال من الضياع ، ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بماله
الوجه الرابع: استدل القائلون بجواز التشريح مطلقاً بقياسه على نبش قبر الميت لأخذ الكفن المغصوب
ونوقش هذا الدليل : بأن الأصل المقيس عليه فيه مساس بالجسد بخلاف الفرع ، وجاز فعل النبش لمكان الحق المغصوب ، فكأن الميت متسبباً في أذية نفسه بخلاف الفرع الذي لا علاقة للميت بمصلحته ولم يتسبب فيما يوجبها بأي وجهٍ من الوجوه ، ثم إن ينبش قبره لذلك الغرض لا يستغرق إلا زمناً يسيراً ثم يعاد إلى القبر الذي سيواري الجثة بدلاً عن الكفن ، بخلاف التشريح الذي يستغرق الساعات ، بل والأيام العديدة
الوجه الخامس : قياساً على أكل المضطر للميت فقد قال النووي في الروضة: يجوز للمضطر قتل الحربي المرتد وأكله قطعاً وكذا الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة على الأصح منهم وفي المغني ذكر الجواز لأنه لا حرمة له فهو منزلة السباع وإن وجد معصوماً أو ميتاً لم يبح أكله وقال الشافعي وبعض الحنفية: يباح وهو أولى لأن حرمة الحي أولى وفي الإنصاف ذكر الجواز وذكر في المعصوم الميت وجهان
وأجيب بأن مسألة المضطر مختلفٌ فيها كما سبق وقد قال ابن حزم بالتحريم لأن الميت يجب مواراته ، وقال الدردير في الشرح الكبير: النص المعول عليه عدم جواز أكله
الوجه السادس: القياس على إلقاء أحد ركاب السفينة إذا خيف عليهم تقديماً للمصلحة العامة فكذلك هنا
ولكن هذه المسألة مختلفٌ فيها فقد رجح العز بن عبد السلام في القواعد التحريم وذكرها ابن حجر في الفتح وحكم بحرمة ذلك لأنهم مستوون في العصمة فلا يجوز بقرعةٍ أو غيرها ومصلحة إنقاذ الباقين جزئية لا كلية ونجاتهم بإلقائه ظنية لا قطعية"
لا يوجد فى البرهان الأول وما هو ببرهان أى دليل لأنه مجرد قياس حالات على حالات أخرى وهى :
1-يجوز التشريح كما يجوز شق بطن الحامل الميتة ، لاستخراج جنينها الذي رجيت حياته
القياس هنا المختلف فيه وجود حياة للجنين فالتشريح هو فى الميتين
2-يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم وغيره كما يجوز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه
القياس هنا المختلف فيه وجود حياة للأم بإماتة الجنين فالتشريح هو فى الميتين
3-يجوز تشريح جثة الميت كما يجوز شق بطنه لاستخراج المال المغصوب الذي ابتلعه
القياس هنا المختلف فيه وجود حياة لمبتلع المال بينما التشريح هو فى الميتين
4-قياسه على نبش قبر الميت لأخذ الكفن المغصوب
القياس هنا المختلف فيه وجود شىء ينفع الأحياء بينما التشريح هو فى الميتين
5-قياساً على أكل المضطر للميت
القياس هنا المختلف فيه وجود حياة للمضطر بينما التشريح هو فى الميتين
6-القياس على إلقاء أحد ركاب السفينة إذا خيف عليهم تقديماً للمصلحة العامة
القياس هنا المختلف فيه وجود حياة للركاب بينما التشريح هو فى الميتين
والمفترض هو أن الأحكام تقاس على النصوص وليس على مجرد حالات ليس فيها نصوص
ثم ذكر الكاتب البرهان الثانى وهو:
ب ـ دليلهم من قواعد الشريعة:
1- قالوا: " إن من قواعد الشريعة الكلية ، ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواها ، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما"
ووجه تطبيق القاعدة: أن المصلحة المترتبة على تشريح جثث الموتى لغرض التعليم تعتبر مصلحة عامة راجعة إلى الجماعة ، وذلك لما يترتب عليها من تعلم التداوي الذي يمكن بواسطته دفع ضرر الأسقام والأمراض عن المجتمع وحصول السلامة بإذن الله تعالى لأفراده فهذه مصلحةٌ مرسلة شهدت لها النصوص ومصلحة الامتناع من التشريح تعتبر مصلحة خاصة متعلقة بالميت وحده ، وبناء على ذلك فإنه تعارضت عندنا المصلحتان ، ولا شك في أن أقواهما المصلحة العامة المتعلقة بالجماعة والتي تتمثل في التشريح فوجب تقديمها على المصلحة الفردية المرجوحة ، تقديماً لمصلحة الأمة لكونها كليةً عامةً وقطعيةً ، فالتشريح الطبي جائزٌ لأن فيه مصلحة حفظ النفوس فالمفاسد مغمورة في جانب المصالح
ومما يدل على الجواز أن الشرع جاء بتحصيل المصالح وتكثيرها ، وبدرء المفاسد وتقليلها ، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما ، وأما إذا تعارضت المصالح فيؤخذ بأرجحها
ومن القواعد: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، والحاجة تنزل منزلة الضرورة والضرورات تبيح المحظورات وقد رمى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الكفار بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان"
القول إن من قواعد الشريعة الكلية ، ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواها ، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما وحكاية القواعد ليست سليمة فمثلا فى المفاسد عدم رد العدوان يضمن بقاء أرواح المجاهدين وسلاحهم سليم بينما المفسدة من رد العدوان وهى عدم تكرار العدوان يعنى خسارة كبيرة فى الأرواح وإصابات فى الأجساد وخسارة فى الأموال ومع هذا اعتبر الله رد العدوان وهو المفسدة الأكبر فقال "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"
وأما المصالح فلا يعتبر فيها تقديم الأقوى فمثلا فى حكم رد نصف المهر لمن طلق قبل الدخول طالب الله الطرف الثانى برد النصف الأخر من المهر من باب الفضل فلو كانت المصلحة الأقوى احتفاظه ببقية المهر ما طالب بذلك ففى تلك الحالة قدم الأضعف وهو الفضل بين الناس بقوله تعالى "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم"
ثم بين القاعدة الثانية وهى :
2- إن من قواعد الشرع (( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب))
وتعلم الجراحة الطبية وغيرها من فروع الطب هو في سد حاجة الأمة إلى هذه العلوم النافعة ، وتحقيق هذا الواجب متوقف على التشريح الذي يمكن بواسطته فهم الأطباء للعلوم النظرية تطبيقياً ، فيعتبر مشروعاً وواجباً من هذا الوجه
وأجيب بأن الحاجة إلى التشريح يمكن سدها بجثث الكفار ، فلا يجوز العدول عنها إلى جثث المسلمين ، لعظيم حرمة المسلم عند الله تعالى حياً كان أو ميتاً"
نلاحظ هنا العنصرية فى التفريق بين الجثث بين جثث المسلمين وغيرهم وهو ما ينافى أن الحرمة لكل النفوس كما قال تعالى :
"ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق"
فالنفوس والأجسام المركبة فيها حرمتها واحدة فلم يقل الله النفس المسلمة محرمة والكافرة غير محرمة بل ذكر النفس على إطلاقها
كما أن الله لو أراد أن يشوه جثث الكفار ما قال فى جثة فرعون "الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية "
فالله جعل الحرمة واحدة فى الكل
ثم ذكر الرجل شروط جواز التشريح فقال :
"شروط الجواز :
1 ـ التحقق من موت الإنسان الذي سيجرى التشريح على جثته
2- موافقة ذوي الشأن أي أهل الميت قبل وفاته أو بعده في حالة تشريح جثث المعروفين ، أما غير المعروفين فلا يشترط
3 ـ ألا يكون ذلك بمقابل مادي
4 ـ أن تقدر الضرورة بمقدارها
5 ـ دفن ما تبقى منها لأن الأصل هو الإسراع بدفن الميت
6 ـوجود ضرورة تتطلب التشريح"
ورقم 4 هى نفسها رقم6 ولن نناقش تلك الشروط الآن
ثم ذكر الكاتب أدلة القول الثانى فقال :
"أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بحرمة التشريح بدليل الكتاب والسنة ، والقياس ، والنظر المستند على قواعد الشريعة
أ ـ دليلهم من الكتاب: قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً"
وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على تكريم الله تعالى لبني آدم ، وهذا التكريم عام شامل لحال حياتهم ، ومماتهم
وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لها ، نظراً لما تشتمل عليه مهمة التشريح من تقطيع أجزاء الجثة ، وبقر البطن ، وغير ذلك من الصور المؤذية فهي على هذا الوجه مخالفة لمقصود الباري من تكريمه للآدميين وتفضيله لهم ، فلا يجوز فعلها
ونوقش: بأن إهانة الميت بتشريح جثته قد رخص فيها أصحاب هذا القول بناء على القياس أيضاً ، حيث استندوا على ما قرره بعض الفقهاء المتقدمين ـ رحمهم الله ـ من جواز نبش قبر الميت ، وأخذ كفنه المسروق أو المغصوب ، فقاسوا إهانته بالتشريح على إهانته بنبش كفنه ، وكشف عورته بجامع تحصيل مصلحة الحي المحتاج إليها
وأيضاً فالتشريح لا ينافي الكرامة وإنما الذي ينافيها ما يكون بقصد الحقد والتنكيل والتشفي والانتقام ويكون بلا سبب فأما هنا فالدافع هو الرحمة وإحقاق الحق
وأدلة المنع يمكن تخصيصها بالمسلم دون الكافر ، فلا حرج في إهانته لمكان كفره ، كما قال تعالى: ( ومن يهن الله فما له من مكرم ( قال الخازن ـ رحمه الله ـ في تفسيره: " أي من يذله الله فلا يكرمه أحد" ولا شك في أن الكفار ممن أذلهم الله تعالى"
الملاحظ هو أن الآية المستدل بها تتكلم عن أبناء آدم الأحياء لكونهم هم المحمولين فى البر والبحر وهم المرزوقين بالطيبات المفضلين على بقية الأنواع والمدفون ليس محمولا ولا مرزوقا ولا مفضلا
وأما تخصيص أدلة المنع بالمسلم دون الكافر ، فلا حرج في إهانته لمكان كفره ، كما قال تعالى"ومن يهن الله فما له من مكرم" فهى عنصرية غريبة فى الجثث مع أن الآية تتحدث عن الآخرة بتعذيب الكفار فالمستدل انتزع الجملة من سياقها وهو :
"وكثير من الناس حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم"
وأما كون التشريح إهانة وأذية للميت فهو كلام ليس فى محله فالجثة لا تشعر بشىء حتى تكون مهانة أو تم إيذاءها ولعل الناس فهموا القول من خلال القولة المعروفة :
" وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها " وهى قولة من ضمن الروايات عن أسماء بنت أبى بكر حين قال ابنها عبد الله لست أخشى القتل، وإنما أخاف أن يمثِّلوا بي قالت: ليس بعد القتل ما يخافه المرء فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ"
لم ينتهى كلامنا فى هذه النقطة ونستكملها فى التالى :
ب ـ دليلهم من السنة: استدلوا بالأحاديث التالية:
1-أحاديث النهي عن المثلة ، ومنها ما ثبت في الصحيح من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: " اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تمثلوا"
وجه الدلالة: أن تشريح جثة الميت في تمثيل ظاهر ، فهو داخل في عموم النهي الوارد في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم الموجب لحرمة التمثيل ومنعه
ونوقشت أحاديث النهي عن المُثلة بأنه قد ثبت ما يخصصها كما في قصة العرنيين ، وآية المحاربين فإذا جاز التمثيل لمصلحة عامة وهي زجر الظلمة عن الاعتداء على الناس ، فكذلك يجوز التمثيل بالكافر طلباً لمصلحة عامة ينتظمها الطب الذي من أجله شرحت جثة الكافر ، إضافة إلى أن بعض العلماء يرى أن النهي للتنزيه"
يوجد فى الفقرة خطأين :
الأول أن التشريح هو تمثيل بالجثة والتشريح ليس الغرض منه التشفى والكراهية التى يفعلها الممثل وإنما الغرض منها هو العلم الطبى ومن ثم فرغم اتحاد الفعل فإن واحد محلل والأخر محرم مثل فعل الانفاق فإن كان الهدف منه المن فهو محرم وإن كان الهدف منه مساعدة الأخر دون من أو اذى فهو حلال
الثانى أن آية المحاربين الهدف منها التمثيل بالجثث وهو خبل لأن قطع الأطراف لا يتم والمحاربين موتى وإنما وهم أحياء حتى يتم إحداث الاهانة والألم فى الدنيا وفى هذا قال تعالى "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم أو أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا"
ثم ذكر الدليل الثانى وهو :
2- حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسر عظمه حياً "
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل على حرمة كسر عظام المؤمن الميت والتشريح مشتمل على ذلك فلا يجوز فعله
ونوقش حديث تحريم كسر عظم الميت بأنه خاص بالمؤمن كما هو منصوص عليه في نفس الحديث وقد قال ابن حزم أن النهي عن كسر عظم الميت لا عن القطع ، ويؤيد ذلك ما أورده السيوطي في بيان سبب الحديث حيث ذكر حديث جابر: وفيه أن الحفار أخرج عظماً ساقاً أو عضداً فذهب ليكسرها فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): لا تكسرها"
الرواية هنا غامضة فكيف يكسر عظام الميت إلا إذا ارتكب قبلها جريمة نبش القبر؟
زد على هذا كيف نعرف عظام الميت المؤمن من الميت الكافر والجثة لا يتبقى منها سوى العظام فترة ثم يتحطم العظم فيما بعد ويتحول لتراب؟
السؤال أين أولا العقاب على النبش حتى تكون الرواية سليمة المعنى فلكى نعاقب الكاسر على الكسر لابد أن نعاقبه أولا على النبش ؟
والسؤال الأخر إن الجروح والأعضاء قصاص بين المسلمين والكفار المعاهدين فى الدنيا كما قال تعالى :
"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"
فالله لم يفرق فى العقاب بين الكاسر المؤمن والكاسر الكافر لعضو ما وإنما العقاب على كل من ارتكب الجريمة فكيف يكون كسر عظام المؤمن الميت جريمة وكسر عظام الكافر الميت ليس جريمة ؟