نقد رواية الغائب لنوال السعداوى
نوال السعداوى كاتبة معروفة بإنتماءها لما يسمى بالتيار العلمانى ولها آراء مخالفة للمعروف بدت وكأنها تحارب الإسلام فى كل حياتها وإن كانت فى الحقيقة تحارب الإسلام الذى أراد الحكام وعلماء السلطان أن نعرفه وقد نذرت حياتها لتلك الحرب المزعومة وهى حرب وهمية لأن من يقرأ العديد من آرائها يجدها تتفق مع حكم الله ولكنها هى وكثير غيرها من التيار العلمانى يوهمون أنفسهم أن عداوتهم مع الإسلام مع أن عداوتهم بالفعل هى مع الحكام ومن يدور فى فلكهم من علماء السلطة فهم من نشروا المقولات الخرافية على أنها جزء من الإسلام وهو ما فهمته نوال فى بعض كتبها ككتاب قضايا المرأة والفكر والأخلاق حين قالت :
"ويحاول بعض الناس وخصوصا فى الدوائر الغربية الاستعمارية أن يصوروا مشكلة المرأة العربية على أنها مشكلة خاصة بالدين الإسلامى"ص159 وأيضا فى قولها:
"باسم الإسلام والدين صوروا الإسلام على أنه دين يحمى الطبقات ويحرم الثورة أو التمرد ضد الحكام أو ضد النظام القائم ويحرم الشكوى من الفقر ...وقد رأينا كم لعب الإعلام الدينى دورا فى خدمة الحركات الرجعية الاستغلالية وكم شجع الأفكار الخرافية والاستسلامية والقدرية والتواكلية التى تعجز الشعوب عن الثورة ضد الظلم والاستغلال "ص162
وأيضا قالت "وقد لاحظت أيضا كيف تستغل الحكومات الإسلام من أجل استغلال الشعوب"ص163
ومع هذا الفهم إلا أن المرأة ظلت تعتنق ضد ما فهمته عددا من الأمور المناقضة لفهمها وللإسلام الصحيح فتقول فى نفس الكتاب :
"ترتبط صفات الأنوثة منذ نشوء العبودية بالخضوع والطاعة والاستسلام للمصير الأنثوى الذى فرضه الله والمجتمع"ص18
فهنا الفهم القاصر للطاعة فالله فرض طاعته على الرجال والنساء جميعا وما نسميه طاعة الزوج ليس من طاعة الله إن خالف حكم الله فعندما يأمرها بأن تخاصم أهلها أو لا تكلم فلانة أو فلان فهذا ليس من طاعة الله ومن ثم ليس من طاعة الزوج
وأما قولها:
"ومفهوم الشرف يتعلق بغشاء خلقه الله فى أجساد البنات فقط لم يخلقه فى أجساد الأولاد لأن الذكور ليس لهم شرف يتعلق بشىء فى أجسادهم"ص40
فهو يدل على مفهوم ليس له وجود فى الإسلام بهذا الاسم وهو الشرف وهو اعتراض على خلقة الله لا مبرر له سوى الفهم الخاطىء فالشرف وهو الحفاظ على الفرج مطلوب من الاثنين الرجل والمرأة معا ولذا كان العقاب واحد لهما عند ارتكاب جريمة عدم حفظ الشرف بالزنى وهو قوله تعالى "الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة"
وأما قولها :
"إلا أن القانون والشرع يرانى نصف رجل لا أستطيع أن أدلى بشهادة فى المحكمة كإنسانة كاملة ليس لى حق الولاية على أخواتى القاصرات لا يمكن لى السفر دون إذن مكتوب من زوجى يملك حقوقا لا أملكها منها الطلاق تعدد الزوجات ما سمى بقوامة الرجل "ص43
فالشرع لا يرى المرأة نصف رجل وإنما يراها أنثى وأما حكايات الولاية وعدم السفر وغيرها فهى أمور لم تفهم فيها المرأة حكم الله الحق فيها والله لم يقل أن الرجل كامل والمرأة ناقصة وإنما كل كامل فى مجاله فكل ميسر لما خلق له ولا نستطيع أن نناقش تلك الاعتراضات هنا لأننا نتناول حكاية الغائب وإن شاء الله سوف نتناولها فى كتاب منفرد
فى الرواية الغائب استمرت نوال على نفس النهج وعالجت بعض المسائل التى كانت تكتب فيها المقالات
بطلة الرواية فؤاده والتى يبدو اسمها مأخوذ من حكاية عتريس وفؤاده تمثل عند نوال رمز البراءة وكذلك حبيبها فريد المناضل وكأنها تذكرنا ببهاء فى رواية ميرامار لنجيب محفوظ فكلاهما يناضل لشىء عظيم وكلاهما يقع فى نفس الخطأ وهو الزنى
تناولت نوال فى الحكاية عدد من المسائل التى ركزت عليها فى مقالاتها المعروفة والتى تتحدث غالبا عن الشهوة التى تسمى خطأ بالجنسية وهى :
-خوف المجتمع من تناول الشهوة وهو ما يظهر فى اعتبار السؤال عن التكاثر خروج عن الأدب من قبل معلمة الصحة فى الفقرة التالية:
"أيمكن أن يكون النخل أكثر أهمية عندهم من أنفسهم وقبل نهاية العام رفعت إصبعها وسألت مدرسة الصحة والأشياء فاعتبرت سؤالها خروجا عن الأدب وعاقبتها بالوقوف أمام الحائط رافعة ذراعيها وتساءلت فؤاده وهى تحملق فى الحائط لماذا تلقح النباتات والحشرات والحيوانات بعضها البعض ويعتبرون ذاك علما من العلوم وفى حالة الإنسان يعتبرونه شيئا فاضحا يستحق العقاب؟ص33
وهو كلام انتقادى لعدم الإجابة على أى أسئلة تتعلق بالشهوة وهو ما يتفق مع قوله تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"
- الجهل النسوى بالشهوة وهو ما يعبر عنه أن فؤاده لم تكن تعرف تسميات الأعضاء الأنثوية بسبب أمها والتى علمتها الخطأ عمدا فى الفقرة الآتية:
"ولأنها كانت تسمعها كثيرا لم تكن تعرفها كأعضاءها الأنثوية تراها ملتصقة بجسمها وتغسلها بالماء والصابون كل يوم دون أن تعرفها وكانت أمها هى السبب ربما لو ولدت بغير أم لعرفت كل شىء من تلقاء نفسها"ص32
وهو انتقاد يتفق مع ذكر القرآن للحيض وأحكام الجماع وغيرها
-خوف الأمهات من تعليم بناتهن ما يختص بأجسامهن والسبب المعروف الخوف من وقوعهن فى الخطيئة إذا عرفن وظائف الأعضاء وهو ما توضحه الفقرة التالية:
" فقد كانت تعلم وهى صغيرة أنها ولدت من فتحة فى نهاية بطن أمها وأنها قد تكون هى الفتحة التى تبول منها أو فتحة أخرى مجاورة لكن أمها نهرتها حين أطلعتها على اكتشافها وقالت لها أنها ولدتها من أذنها وأفسدت أمها بهذا التصريح أحاسيسها الطبيعية وعطلت إدراكها لكثير من البديهيات مدة طويلة"ص32
وهذا الكلام انتقاد يتفق مع وجوب تعليم المسلمين والمسلمات لأحكام الإسلام فكيف تعرف البنت أو الولد آداب دخول الكنيف أو الكبنيه من غسل المهبل والشرج أو المهبل والقضيب دون أن يكون لهما اسم ؟ وكيف تعرف البنت أو الولد الخطيئة إن لم يعرفا أن ممارسة الجماع ومن ضمنها إدخال القضيب فى المهبل ؟
-كون المجتمع ذكورى ففى رأيها أن الرجل يفعل ما لا تفعله المرأة لكونه ذكر فقط وليس لأن لديه قدرة أكثر من المرأة وهو ما يتضح من الفقرة التالية:
" وفى يوم حمل إليها الصوت قصة اكتشاف الراديوم كان قد حمل إليها من قبل أسماء رجال كثيرين اكتشفوا أشياء وكانت تقرض أظافرها وهى تسمع وتقول لنفسها لو كنت رجلا لاستطعت مثلهم وتحس بطريقة خفية أن هؤلاء المخترعين لا يزيدون عنها قدرة على الاكتشاف ولكنهم رجال نعم الرجل قد يفعل شيئا لا تفعله المرأة لمجرد أنه رجل إنه ليس أكثر قدرة ولكنه ذكر وكأن الذكورة فى حد ذاتها شرط من شروط الاكتشاف" ص29
هذا الانتقاد وإن كان انتقاد لمجتمع وليس للدين فهو انتقاد يخالف طبيعة خلق الذكر والأنثى فكلاهما لديه زيادة فى قدرة ونقص فى قدرة فالرجل لديه قدرة تذكر أكبر وعنده نقص فى الاهتمام بالأطفال والمرأة العكس لديها اهتمام زائد بالأطفال ونقص فى القدرة التذكرية
-العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة دون زواج وهى لم تسمها باسمها الحقيقى وهو الزنى ولكنها عبرت عن ذلك برفض البواب للزنى فقالت :
"ورأت البواب الأسمر جالسا على دكته فى مدخل السلم وكانت على وشك أن تسأله عن فريد لكنها تجاهلت نظرته الفاحصة المستطلعة الخاصة بكل البوابين لأنه يعرفها وقد رآها مرات ومرات تصعد إلى شقة فريد لكنه كان دائما وفى كل مرة يصوب إليها النظرة نفسها الفاحصة المستطلعة وكأنه لا يعترف بكل تلك العلاقة بينها وبين فريد "ص31
ويشير للزنى ما جاء فى الفقرة التالية:
"لكن فريد كان محور حياتها كانت تبتلع أيامها كجرعة من زيت الخروع ثم يهل يوم الثلاثاء بإشراقته العجيبة يوم الثلاثاء هو موعدها مع فريد كل ثلاثاء فى الثامنة مساء فى ذلك المطعم الصغير إن كان الجو دافئا أو فى بيته فى ليالى الشتاء القارصة كم شتاء مر على علاقتهما إنها لا تعرف تماما ولكنها تعلم أنها تعرف فريد من زمن بعيد .. لم يخلف الموعد مرة واحدة ولم يكذب مرة واحدة ربما أخفى عنها أشياء لكنه لم يكذب حتى حينما جاءت سيرة الزواج من حيث لا يدريان قال لها وهو ينظر إليها بعينيه البنيتين اللامعتين لن أستطيع الزواج لفترة من الزمن لو قالها رجل أحر فربما أحست بالشك فيه أو بطعنة فى كرامتها لكن فريد كان مختلفا وكان كل شىء يصبح معه مختلفا" ص21
وأيضا:
"رائحة الياسمين كان لها معنى لقائها مع فريد وكان لها ملمس قبلاته فوق عنها ولكنها الآن تعنى غيابه"ص22
هذه الفقرات تعتبر دعوة لنشر الفاحشة فى المجتمع من خلال العلاقات وهو ما نخالفها فيه فالمفترض فيمن يريد إصلاح المجتمع أن يسمى الشىء باسمه الحقيقى
- طغيان الرجل العقيم الباحث عن الإنجاب على زوجته وهو ما عبرت عنه الفقرات التالية:
"وقال الرجل بصوت خشن جئنا لنعرفى بالتحاليل ما سبب عقم زوجتى ...ورد الرجل قائلا عرضتها على أطباء كثيرين ...وسألته فؤاده وهل فحصت نفسك أيضا ونظر الرجل إليها فى دهشة أنا وقالت فى هدوء نعم أنت الرجل أحيانا يكون السبب..لكن المرأة لم تتحرك من مكانها ..وشعرت فؤاده بشىء من الخوف فاقتربت من المرأة وربتت على كتفها قائلة اذهبى مع زوج يا سيدتى وكأنما كانت فى تلك اللمسة شحنة كهربية فانتفضت المرأة وأمسكت بذراع فؤاده بكل قوتها وصاحت بصوت غريب لن أذهب معه أنقذينى إنه يضربنى كل يوم ويأخذنى إلى أطباء يضعون أسياخا من الحديد فى جسمى فحصوا كل شىء وحللوا كل شىء وقالوا إننى لست عقيما إنه هو المريض ً91..تزوجنى منذ عشر سنوات ولا زلت عذراء إنه ليس رجلا إنه لا يعرف فى الظلام مؤخرتى من رأسى وانقض الرجل عليها كالوحش وراح يضربها بيديه وقدميه ورأسه فأخذت المرأة تضربه بكل قوتها... ورأت باب المصعد يفتح فجأة ويخرج منه الساعاتى ..وقفت فؤاده جامدة فى وسط الصالة تسمع صوتهما العالى وهما يتناحران على السلم وسارت لتفتح البال وترى ماذا يفعل الرجل بالمرأة لكن صوتهما انقطع وأصبح الممر هادئا وذهبت إلى النافذة لتطل عليهما وهما يخرجان من العمارة وكانت تظن ان المرأة لن تخرج منتصبة على قدميها لكنها دهشت حسن رأت الرجل يخرج ومن ورائه المرأة كانت تسير مطرقة هادئة الهدوء نفسه الذى كانت عليه قبل الحادثة" ص92
هذا الانتقاد سليم وهو ما يوافق قوله تعالى "ويجعل من يشاء عقيما" فالعقم يصيب الرجل كالمرأة
كما تناولت نوال قضايا أهمها :
أن العمل الحكومى يقضى على طموح الباحث العلمى فقد سمت أماكن العمل الحكومى قبرا فى الفقرة التالي:
"ونظرت فى الساعة كانت العاشرة والنصف أمامها ثلاث ساعات ونصف لتخرج من هذا القبر وجلست إلى المكتب لحظة ثم نظرت على الساعة كان العقربان الرفيعان قد تجمدا فوق الساعة العاشرة ودست حقيبتها تحت غبطها ونهضت ثم خرجت مسرعة "ص15
وبينت أن البحث العلمى فى الحكومة عبارة عن مكاتب لا يحدث فيها أى عمل كالبحث العلمى فكله ما يتم فعله هو توقيع الحضور والانصراف فقط وهو ما تشير له الفقرة التالية:
"وخرجت فؤاده من الحمام ووقفت فى الصالة أمام أمها وقالت ما قيمة درجة أو علاوة يا أمى بل ما قيمة الوزارة أنت تتصورين أن الوزارة شىء ضخم عظيم إنها ليست إلا مبنى قديما آيلا للسقوط وأنت تتصورين أننى حين اخرج كل يوم فى الصباح الباكر وأعود بعد الظهر أننى لا أعمل شيئا لا أعمل شيئا على الإطلاق إلا أن اكتب اسمى فى دفتر الحضور والانصراف"ص47
وبينت أن العمل الحكومى ترقياته ليست مرتبطة بالعمل الكثير ولا بالاكتشافات ولا الاختراعات وإنما مرتبطة بالأقدمية أو بالنفاق فقالت فى الفقرة التالية:
" ونظرت إليها أمها بعينيها الصفراوين الواسعتين وقالت بصوت واه ولكن لماذا لا تشتغلين يا ابنتى إنهم لن يرضوا عنك بسبب هذا ولن تحصلى على ترقيات وابتلعت فؤاده ريقها وقالت ترقيات الترقيات تعطى حسب شهادة الميلاد وحسب مرونة عضلات الظهر وقالت أمها فى دهشة مرونة عضلات الظهر هل أنت فى قسم الأبحاث الكيمائية أم الألعاب الرياضية وضحكت فؤاده ضحكة قصيرة سريعة ثم وضعت إصبعها على فم أمها قائلة لا تقولى الأبحاث إنها من الألفاظ الجارحة وقالت الأم لماذا وقالت فؤاده لا شىء إننى أضحك معك المسألة كلها هى أننى سأنشىء معملا كيمائيا "ص 47
وكذلك فى الفقرة التالية:
"كان مدير القسم غاضبا يتكلم بصوت عال تناثر له لعابه كالشظايا الشفافة الصغيرة طارت واحدة منها واستقرت فوق خدها تركتها فى مكانها ولم تمسحها نفاقا له وسمعته ص 39 يقول انصرفت من مكتبك أمس قبل الموعد الرسمى المحدد بثلاث ساعات ونصف"ص40
وأظهرت أن المثل القائل خذوهم بالصوت كى لا يغلبوكم يفيد فى العمل عندما يريد المدير معاقبة من تحته فعندما يعلو صوت الموظف حتى لو كان مخطىء على مديره فالمدير يضطر لعدم عقابه خوفا على هيبته من السقوط أمام باقى الموظفين وهو ما تعبر عنه الفقرة :
"لم تدر فؤاده كيف انقلب المشهد بهذه السرعة فأصبحت هى الغاضبة وهى صاحبة الحق فى الغضب وأصبح مدير القسم فى حالة أقرب إلى الخوف منها إلى الدهشة وضاعت من عينيه تلك النظرة الشرسة التى يصوبها إلى مرءوسته وحلت محلها نظرة مستأنسة بل ومتهيبة " ص41
كما بينت أن الموظف عليه أن يقهر مديره بطلبه أن يعمل عمله الذى لا يعمله لأنه يعرف أنه لا يوجد عمل من الأساس فى الفقرة :
"وخطرت ببالها فكرة ظنت أنها لم تخطر ببال أحد وأحست بفرحة سرية أخفت معالمها عن مدير القسم ولم تعرف لماذا أو كيف فتحت فمها فجأة وقالت لمدير القسم بصوت مسموع إننى أعمل فى قسم الأبحاث منذ ست سنوات وأعتقد أن من حقى أن أقوم ببحث منذ اليوم"ص40
واعترفت على لسان الموظفة فى النهاية أن حلمها وحلم أمها فى الاكتشاف خاب وخسر فى ظل العمل الحكومى فى الفقرة التالية:
"فقد تذكرت صوت أمها وهى تقول ربنا يفتح عليك يا فؤاده يا بنتى وتخترعين اختراعا عظيما فى الكيمياء ورأت الزرقة لها مسام مسدودة والسحب البيضاء تزحف فوقها بحركتها نفسها اللامبالية وأطرقت رأسها إلى الأرض وهمست لنفسها بصوت لم يسمعه أحد ظنونك خابت يا أمى وارتطمت دعواتك بسماء مصمتة "ص17
ووضحت نوال أن العمل الحكومى هو عمل ورقى غالبا فالتقارير السنوية تعطى على غير عمل بقولها:
"ونهضت واقفة كان رأسها قد سخن ونظرت فى عينيه المهزوزتين نظرة ثابتة وقالت أنا لست من هذا النوع يا أستاذ ساعاتى إننى أريد أن أعمل أريد أن أقوم بأبحاث كيماوية إننى أدفع عمرى من أجل أن أعمل بحثا وسكتت لحظة وابتلعت ريقها وقالت إننى أكره الوزارة أمقتها لأننى لا أعمل فيها شيئا لا أدرى كيف تكون تقاريرى ممتازة وأنا لم أعمل شيئا منذ ست سنوات لن أذهب إلى الهيئة ولن اذهب إلى الوزارة سأقدم استقالتى وأتفرغ لمعملى "ص93
بالقطع ما قالته نوال صحيح فالعمل الحكومى وغير الحكومى معظمه عمل مكتبى لا يعمل فيه الناس شىء مفيد غير كتابة الأوراق ومن يعمل بجد واجتهاد يعاقب حتى قال الموظفون مثلا شائعا هو اعمل كثيرا تغلط كثيرا تأخذ جزاء كثيرا لا تعمل لا تأخذ أى جزاء ومن المضحك فى حياتى أننى فى أول عملى كمعلم وقبل مرور ستة شهور على التعيين كنت أعمل هذا الكثير وجاء موجه القسم وسألنى أسئلة لا علاقة لها بالعمل فى الفصل مثل كم ولد فى الفصل كم بنت فى الفصل كم عدد حصص القراءة كم عدد حصص المحفوظات كم عدد حصص الحساب ما علاقة الشرح وإفهام التلاميذ بتلك الأسئلة ؟ أمر أخرجنى عن رحابة الصدر فتركت له الفصل وقام بالتحقيق معى وسببت له كل الأخطاء والحكومة فما كان منه إلا أن قال لى إن شاء الله ستكون عند أمن الدولة على يدى وعندما جاء الناظر فى اليوم التالى وعرف الموضوع قعد معه حتى أخذ التحقيق منه ثم سبه بأمه وقال له سأقطعك لو شاهدتك مرة أخرى فى المدرسة وبالفعل انتقل من القسم الذى كانت المدرسة فى نطاقه
من العمل الحكومى تعلمت الكذب والتزوير ليس كذبا ولا تزويرا مما يضر أحد وإنما كذب وتزوير لكى يمكن أن يسير العمل بلا مشاكل فالحكومة تضع بنودا للإنفاق لا يمكن أن تتخطاها ويتم الالتفاف عليها لكى يسير العمل فمثلا كانت أنبوبة الغاز فى الاقتصاد تحتاج لإعادة تعبئتها ولا يوجد مدرسة للمادة حتى يمكن الصرف من البند فتم تعبئتها على حساب المجال الصناعى وكتبت الفاتورة بشىء يخص المجال الصناعى وليس الاقتصاد وبسبب هذه الفاتورة تم عمل قضية فى النيابة الإدارية ذهب فيها أربعة موظفين معطلين العمل فى أماكنهم ولم يكن سبب عمل القضية الالتفاف على القانون وإنما كان السبب أن دفتر تقييد الفواتير قد انتهى وطلبت المدرسة دفترا أخر لم يتم إحضاره إلا بعد ثلاثة شهور ومن ثم فالمدرسة تربحت من الخمسة جنيهات طوال الثلاث شهور وانتهت القضية بالنسبة للمدرسة على خير واتضح أن من حول المدرسة للنيابة الإدارية هو المخطىء فضاعت الأموال فى المواصلات وفى أوراق القضية وفى ترك العمل وهذا الالتفاف هو ما عبر عنه المثل الوظيفى الأخر"الحكومة تقول لك جامعنى ولا ترينى ذكرك"
هذا بالفعل ما تعلمه لك الحكومات الجاهلة عندما يكون من يشرعون اللوائح جهلة ولا يفهمون شىء تتعلم ألا تعمل وإن كنت مجدا مجتهدا تتعلم الكذب وتتعلم النفاق أو دفع الرشوة إن كنت تريد أن تخرق قوانين العمل بالخروج المبكر أو لا تحضر للعمل كى تعمل فى شىء أخر
ووضحت نوال أن الفساد متغلغل الجذور فى البلد بحيث أن البرىء فى النهاية يضطر للاشتراك فيه وهو ما تشير له الفقرات التالية:
"وارتجت العتامة فوق عينيه الجاحظتين وقال ألا زلت فى هذه المرحلة الأولى وقال ماذا تعنى قال وهو يتنهد كنت أعيش هذه المرحلة منذ عشرين سنة وسكت لحظة ثم قال ولكننى اكتشفت أن الحياة الواقعية شىء أخر وقالت ماذا تعنى قال وهو يبتسم ابتسامة ضيقة كانت ص110 المبادىء الرفيعة تضعنى دائنا فى صدام مع الحياة الواقعية وقالوا عنى غير متكيف وسألت من هم قال زملائى فى الجامعة وقالت هل كنت فى الجامعة قال كنت مدرسا صاحب مبدأ "ص11
وأيضا:
"وسألت وماذا حدث وضحك ضحكة قصيرة ثم قال تكيفت والتفت ناحيتها وثبتت عيناه الجاحظتان لحظة وقال لم يكن أمامى طريق أخر وسألت هل أجريت بحثا وأنت فى الجامعة قال أجريت73 بحثا وصاحت فى دهشة 73 بحثا كيف هذا مستحيل وقال وهو يمصمص شفتيه كان شيئا بسيطا جدا كنت أضع اسمى فحسب وسألت فى ذهول والباحث الحقيقى قال كان شابا صغيرا لا يزال يسعى للوصول"ص111
وبينت الحكاية أن النتيجة الثانية لعدم مشاركة البرىء فى الفساد هى إفساد حياته ودفعه للجنون بإحداث المصائب له كما حدث مع حسنين أفندى فى الفقرة التالية:
"وواصل كلامه حسنين أفندى كان زميلى فى الجامعة وكان يؤمن بأن فى رأسه فكرة جديدة وبدأ يجرى بحثا علميا كان يشترى أنابيب الاختبار من مرتبه الصغير وكان يسافر هنا وهناك ليجمع المواد ثم ماذا حدث وسألت فى شرود ومصمص شفتيه وقال سبقه زملاؤه فى تسجيل بحوث شكلية من أجل الترقية وحاربه الأساتذة الكبار لأنه رفض أن يبيع اسمه لأحد ثم فصلوه بتهمة ملفقة وهزت رأسها لا يمكن وقال بهدوء قابلته منذ شهور فى الشارع كان ينظر أمامه فى ذهول ولم يعرفنى وابتسم كاشفا عن أسنانه الصفراء ورأيت طرف إصبعه يطل من حذائه كان شيئا مؤلما جدا هل يحترم أحد حسنين أفندى وصاحت أنا أحترمه "ص113
ووضحت أن الفساد أقوى لدرجة أن لا أحد يستطيع أن يحل كل مشاكل البؤساء وهو ما عبرت عنه الفقرة التالية:
"كان الساعاتى يتأملها طول الوقت ولما رآها تجلس جلس هو الأخر على كرسى غير بعيد عنها وقال وهو يبتسم يبدو أنك تتألمين من أجل المرأة وتنهدت وقالت إنها بائسة وتذبذبت العينان الجاحظتان وهو يقول ما أكثر البؤساء الذين سترينهم هنا ص92فى معملك ولكنك لن تستطيعى أن تفعلى لهم شيئا ورفع إصبعه إلى فوق قائلا لهم رب وردت قائلة بشىء من الضيق أوجد الرب ليمسح الناس فيه أخطاءهم لم تعرف كيف قالت هذه الجملة فهى ليست جملتها إنها جملة فريد كانت تسمعها منه كثيرا"ص93
وأما الغائب وهو عنوان الحكاية فيبدو أن نوال اختارت للغائب اسم هو فريد ولا نستطيع أن نسألها حاليا بعد موتها ولكن التخمين أنه دليل على أنه إنسان وحيد من نوعه يرشد ويعلم ويحس الغير معه بالأمان
فريد الغائب هو حبيب فؤاده أو بالأحرى عشيقها وفؤاده بطلة الرواية والتى تدور حولها وحول بحثها عن فريد بعد أن فقدته دون معرفة السبب وتظل تبحث عنه حينا وتظن فيه السوء أحيانا أخرى وتنشغل به فى أحيانا أخرى من خلال نظرها فى وجوه الناس كما تعبر الفقرات التالية عن هذا :
البحث عنه فى أماكن وجوده فى الفقرة التالية:
"لم تكن تعرف إلى أين تسرع كانت تعرف أنها تفر من المطعم ومن البيت ومن شارع النيل ومن كل تلك الأماكن التى تذكرها بفريد كانت الأمكنة متواطئة معه تخفى غياله وتؤكد وجوده الأمكنة أيضا تنافق كما ينافق الموظفون وأسرعت الخطى لتخرج من شارع النيل ولتبحث عن مكان محايد لم ير فريد ولم يعرفه ولم يكون معه متواطئا "ص24
وأيضا فى بيته:
"ورأت البواب الأسمر جالسا على دكته فى مدخل السلم وكانت على وشك أن تسأله عن فريد لكنها تجاهلت نظرته الفاحصة المستطلعة الخاصة بكل البوابين لأنه يعرفها وقد رآها مرات ومرات تصعد إلى شقة فريد لكنه كان دائما وفى كل مرة يصوب إليها النظرة نفسها الفاحصة المستطلعة وكأنه لا يعترف بكل تلك العلاقة بينها وبين فريد وصعدت السلم فى نفس والحد ثم وقفت تلهث أمام الباب الخشبى ذى اللون البنى القاتم ... ولم تخطفه السماء ودق قلبها بعنف وفكرت فى أن تعود بسرعة قبل أن يراها لقد أخلف الموعد عن عمد لا عن عجز ولم يطلبها فى التليفون بعد كل ذلك ليشرح السبب وكان يمكن أن تستدير وتعود لكنها لم تر النور من خلال زجاج الشراعة كانت الشقة مظلمة تماما ربما يكون فى حجرة النوم يقرأ ونور حجرة النوم لا يصل بشراعة الباب "ص31
وتخيل رؤيته فى الطريق كما فى الفقرة:
"ورفعت عينيها لتتأمل الطريق لكن قلبها دق بعنف فقد رأت رجلا له مشية فريد مقبلا من بعيد وأسرعت الخطى لتقترب منه كان يميل بكتفيه إلى الإمام قليلا وبمقل قدميه فوق الأرض ببطء يشبه الحذر حركات فريد نفسها واقتربا أكثر وأكثر إنه يحرك ذراعيه بهذا الشكل الملحوظ وفريد لم يكن يحرك ذراعيه ..وأصبح على بعد خطوات منها وفتحت فمها لتهتف فريد لكن نور عربة مارة أزاح الظلام عن وجه أخر غير وجه فريد وغاص قلبها فى بطنها كقطعة من حديد"ص34
وتكرار الاتصال به على أمل وجوده من خلال الهاتف كما فى الفقرة:
"ومدت يدها إلى التليفون ووضعت إصبعها فى القرص وأدارته الخمس دورات المعهودة وجاءها الجرس فأسندت ظهرها إلى مسند السرير استعدادا لعتاب طويل وظل الجرس يرن ونظرت إلى الساعة كانت12 فريد لا يخرج من البيت قبل الواحدة أو الثانية ربما يكون فى حجرة النوم يقرأ فى السرير أو بين حجرة النوم وحجرة المكتب..........وكانت السماعة ما تزال ملتصقة بأذنها والجرس الحاد يرن فيها رنينا عاليا وخطرت لها فكرة فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وعادت تطلب الرقم من جديد وتأكدت أنها تضع إصبعها فى الثقب الصحيح وما إن توقف القرص بعد الدورة الخامسة حتى انطلق الجرس فى أذنها كالقذيفة وظلت ممسكة بالسماعة إلى جوار أذنها فترة طويلة تكفى لخروج أى شخص من الحمام وخطرت لها فكرة أخرى فوضعت السماعة لحظة ثم رفعتها وطلبت الدليل وسألت عما إذا كان هناك عطل فى التليفون ورد عليها الصوت الناعم الممطوط بعد لحظة يقول التليفون سليم معك الجرس"ص20
ونجد فؤاده تحلل شخصية فريد بقلب المحب الذى لا يرى فى محبه أى عيب فالرجل كاتب باحث قارىء لا يكذب ويقول الحقيقة ولو كانت مرة وهو ما تعبر عنه الفقرة :
"وكان فريد مشغولا دائما يقضى الساعات مع كتبه وأوراقه قد يقرأ وقد يكتب أشياء يضعها بعناية فى درج المكتب ويغلق الدرج بالمفتاح وكان يخرج كل يوم ويتأخر ليلا وقد يقضى بعض الليالى خارج البيت ولم تكن تسأله أين يذهب لم تحب أن تقوم بدور الزوجة المستجوبة بل لم تحب أن تقوم بدور الزوجة على الإطلاق كانت تعشق حريتها وتعشق حجرتها الخاصة .. لكن فريد كان محور حياتها كانت تبتلع أيامها كجرعة من زيت الخروع ثم يهل يوم الثلاثاء بإشراقته العجيبة يوم الثلاثاء هو موعدها مع فريد كل ثلاثاء فى الثامنة مساء فى ذلك المطعم الصغير إن كان الجو دافئا أو فى بيته فى ليالى الشتاء القارصة كم شتاء مر على علاقتهما إنها لا تعرف تماما ولكنها تعلم أنها تعرف فريد من زمن بعيد .. لم يخلف الموعد مرة واحدة ولم يكذب مرة واحدة ربما أخفى عنها أشياء لكنه لم يكذب حتى حينما جاءت سيرة الزواج من حيث لا يدريان قال لها وهو ينظر إليها بعينيه البنيتين اللامعتين لن أستطيع الزواج لفترة من الزمن لو قالها رجل أحر فربما أحست بالشك فيه أو بطعنة فى كرامتها لكن فريد كان مختلفا وكان كل شىء يصبح معه مختلفا" ص21
وهى تعتبره مختلفا عن الناس فى الفقرة :
"ما الغريب فى أن يكذب أى أحد ولكن فريد لم يكن أى أحد كان مختلفا كان مختلفا عن الآخرين وكيف كان مختلفا إنها لا تعرف تماما ولكن كان هناك شىء ما فى عينيه يجعلها تحس أنه مختلف نعم كان هناك شىء فى عينيه يجعلها تحس أنه مختلف نعم كان شىء فى عينيه لا تراه فى عيون الرجال شىء ما يلمع ويطل من عينيه البنيتين"ص6
وكغالبية المحبين يلتمسون الأعذار لمن يحبون عند وجود شىء مريب وهو ما تعبر عنه الفقرة التالية:
"وهى لا تعرف ما العلاقة بين السماء وفريد ولكنها تعرف أن هناك علاقة ما بينهما ربما لأنها تكون موجودة دائما حسن يكون فريد موجودا أو لأنها تكون موجودة أيضا حين يغيب وفريد لم يأت أمس إلى الموعد أول مرة يخلف الموعد ولم يتكلم فى التليفون ما الذى حدث ؟ص14
بطلنا الغائب هو مناضل فيما يبدو يقول الحكم ويبدو صادقا فى تحليلاته واستنتاجاته وفى نهاية الحكاية تعرف فؤاده السبب فى اختفاء فريد وهو قبض السلطة عليه لأنه يريد العدل ويحرض الناس على فعله